فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الثالثة: إيتاؤه إياهم ما لم يؤت أحدًا من العالمين، فسره ابن عباس فيما روى عنه مجاهد: بالمن والسلوى، والحجر، والغمام.
وروى عنه عطاء الدار والزوجة والخادم.
وقيل: كثرة الأنبياء.
وقال ابن جرير: ما أوتي أحد من النعم في زمان قوم موسى ما أوتوا، خصوا بفلق البحر لهم، وإنزال المن والسلوى، وإخراج المياه العذبة من الحجر، ومد الغمام فوقهم.
ولم تجمع النبوة والملك لقومٍ كما جمعا لهم، وكانوا في تلك الأيام هم العلماء بالله وأحباؤه وأنصار دينه انتهى.
وأن المراد كثرة الأنبياء، أو خصوصات مجموع آيات موسى.
فلفظ العالمين مقيد بالزمان الذي كان فيه بنو إسرائيل، لأن أمة محمد قد أوتيت من آيات محمد صلى الله عليه وسلم أكثر من ذلك: قد ظلل رسول الله صلى الله عليه وسلم بغمامة قبل مبعثه، وكلمته الحجارة والبهائم، وأقبلت إليه الشجرة، وحن له الجذع، ونبع الماء من بين أصابعه، وشبع كثير من الناس من قليل الطعام ببركته، وانشق له القمر، وعد العود سيفًا، وعاد الحجر المعترض في الخندق رملًا مهيلًا إلى غير ذلك من آياته العظمى ومعجزاته الكبرى.
وهذه المقالة من موسى لبني إسرائيل وتذكيرهم بنعم الله هي توطئة لنفوسهم، وتقدم إليهم بما يلقى من أمر قتال الجبارين ليقوي جأشهم، وليعلموا أنّ من أنعم الله عليه بهذه النعم العظيمة لا يخذله الله، بل يعليه على عدوه ويرفع من شأنه، ويجعل له السلطنة والقهر عليه.
والخطاب في قوله: وآتاكم، ظاهره أنه لبني إسرائيل كما شرحناه، وأنه من كلام موسى لهم، وبه قال الجمهور.
وقال أبو مالك، وابن جبير: هو خطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وانتهى الكلام عند قوله: وجعلكم ملوكًا، ثم التفت إلى هذه الأمة لما ذكر موسى قومه بنعم الله، ذكر الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم بهذه النعمة الظاهرة جبرًا لقلوبهم، وأنه آتاهم ما لم يؤت أحدًا من العالمين، وعلى هذا المراد بالعالمين العموم، فإن الله فضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأمم، وآتاهم ما لم يؤت أحدًا من العالمين، وأسبغ عليهم من النعم ما لم يسبغها على أحد من الأمم، وهذا معنى قول ابن جرير وهو اختياره.
وقال ابن عطية: وهذا ضعيف، وإنما ضعف عنده لأن الكلام في نسق واحد من خطاب موسى لقومه، وهو معطوف على ما قبله، ولا يلزم ما قاله، لأن القرآن جاء على قانون كلام العرب من الالتفات والخروج من خطاب إلى خطاب، لاسيما إذا كان ظاهر الخطاب لا يناسب من خوطب أولًا، وإنما يناسب من وجه إليه ثانيًا، فيقوي بذلك توجيه الخطاب إلى الثاني إذا حمل اللفظ على ظاهره.
وقرأ ابن محيصن: ياقُوم بضم الميم، وكذا حيث وقع في القرآن، وروى ذلك عن ابن كثير.
وهذا الضم هو على معنى الإضافة، كقراءة من قرأ: قل رب احكم بالحق بالضم وهي إحدى اللغات الخمس الجائزة في المنادى المضاف لياء المتكلم. اهـ.

.قال الخازن:

قوله عز وجل: {وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم} قال ابن عباس: اذكروا عافية الله.
وقيل: معناه اذكروا أيادي الله عندكم وأيامه التي أنعم فيها عليكم قال الطبري: هذا تعريف من الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بتمادي هؤلاء في الغي وبعدهم عن الحق وسوء اختيارهم لأنفسهم وشدة مخالفتهم لأنبيائهم مع كثرة نعم الله عليهم وتتابع أياديه وآلائه لديهم سلَّى بذلك نبيه صلى الله عليه وسلم عما نزل به من مقاساتهم ومعالجتهم في ذات الله عز وجل: {إذ جعل فيكم أنبياء} يعني أن موسى عليه السلام ذكر قومه بني إسرائيل بأيام الله عندهم وبما أنعم به عليهم فقال اذكروا نعمة الله عليكم إذ فضلكم بان جعل فيكم أنبياء.
قال الكلبي: هم السبعون الذي اختارهم موسى من قومه وانطلق بهم إلى الجبل وأيضًا كان أنبياء بني إسرائيل من أولاد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام وهؤلاء لا شك أنهم من أكابر الأنبياء وأولاد يعقوب وهم الأسباط أنبياء على قول الأكثرين وموسى وهارون عليهما السلام وأيضًا فإن الله تعالى أعلم موسى أنه يبعث من بعده في بني إسرائيل أنبياء فإنه لم يبعث في أمة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء فكان هذا شرفًا عظيمًا لهم ونعمة ظاهرة عليهم {وجعلكم ملوكًا} يعني: وجعلكم أحرارًا تملكون أنفسكم بعد أن كنتم عبيدًا في أيدي القبط.
قال ابن عباس: يعني جعلكم أصحاب خدم وحشم.
قال قتادة: كانوا أول من ملك الخدم ولم يكن لمن قبلهم خدم وروي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كان بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم وامرأة ودابة يكتب ملكًا» ذكره البغوي بغير سند وسأل رجل عبد الله بن عمرو بن العاص فقال ألسنا من فقراء المهاجرين فقال له عبد الله ألك امرأة تأوي إليها؟ قال نعم، قال: لك مسكن تسكنه؟ قال نعم، قال: أنت من الأغنياء، قال فإن لي خادمًا قال فأنت من الملوك.
وقال الضحاك: كانت منازلهم واسعة فيها مياه جرية ومن كان مسكنه واسعًا وفيه ماء جار فهو ملك {وآتاكم ما لم يؤت أحدًا من العالمين} يعني من عالمي زمانكم يذكرهم ما أنعم الله به عليهم من فلق البحر لهم وإهلاك عدوهم وإنزال المن والسلوى عليهم وإخراج الماء من الحجر لهم وتظليل الغمام فوقهم إلى غير ذلك من النعم التي أنعم الله بها عليهم. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَإذْ قَالَ موسى لقَوْمه} جملة مستأنفة مسوقة لبيان ما فعلت بنو إسرائيل بعد أخذ الميثاق منهم، وتفصيل كيفية نقضهم له مع الإشارة إلى انتفاء فترة الرسل عليهم الصلاة والسلام فيما بينهم؛ و{إذ} نصب على أنه مفعول لفعل محذوف خوطب به سيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم بطريق تلوين الخطاب وصرفه عن أهل الكتاب ليعدد عليهم ما سلف من بعضهم من الجنايات، أي واذكر لهم يا محمد وقت قول موسى عليه السلام {لقومه} ناصحًا ومستميلًا لهم بإضافتهم إليه {يا قوم اذكروا نَعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت أبلغ من توجيهه إلى ما وقع فيه، وإن كان هو المقصود بالذات كما مرت الإشارة إليه، و{عليكم} متعلق إما بالنعمة إن جعلت مصدرًا، وإما بمحذوف وقع حالًا منها إذا جعلت اسمًا أي اذكروا إنعامه عليكم بالشكر، واذكروا نعمته كائنة عليكم، وكذا {إذ} في قوله تعالى: {إذْ جَعَلَ فيكُمْ أنبيَاءَ} متعلقة بما تعلق به الجار والمجرور أي اذكروا إنعامه عليكم في وقت جعله، أو اذكروا نعمته تعالى كائنة عليكم في وقت جعله فيما بينكم من أقرابئكم أنبياء، وصيغة الكثرة على حقيقتها كما هو الظاهر، والمراد بهم موسى وهارون ويوسف وسائر أولاد يعقوب على القول بأنهم كانوا أنبياء، أو الأولون، والسبعون الذين اختارهم موسى لميقات ربه، فقد قال ابن السائب ومقاتل: إنهم كانوا أنبياء.
وقال الماوردي وغيره: المراد بهم الأنبياء الذين أرسلوا من بعد في بني إسرائيل؛ والفعل الماضي مصروف عن حقيقته، وقيل: المراد بهم من تقدم ومن تأخر ولم يبعث من أمة من الأمم ما بعث من بني إسرائيل من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
{وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكًا} عطف على {جعل فيكم} وغير الأسلوب فيه لأنه لكثرة الملوك فيهم أو منهم صاروا كلهم كأنهم ملوك لسلوكهم مسلكهم في السعة والترفه، فلذا تجوز في إسناد الملك إلى الجميع بخلاف النبوة فإنها وإن كثرت لا يسلك أحد مسلك الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لأنها أمر إلهي يخص الله تعالى به من يشاء، فلذا لم يتجوز في إسنادها، وقيل: لا مجاز في الإسناد، وإنما هو في لفظ الملوك فإن القول كانوا مملوكين في أيدي القبط فأنقذهم الله تعالى، فسمى ذلك الإنقاذ ملكًا، وقيل: لا مجاز أصلًا بل جعلوا كلهم ملوكًا على الحقيقة، والملك من كان له بيت وخادم كما جاء عن زيد بن أسلم مرفوعًا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كانت بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة كتب ملكًا» وأخرج ابن جرير عن الحسن هل الملك إلا مركب وخادم ودار، وأخرج البخاري عن عبد الله بن عمرو أنه سأله رجل فقال: ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال عبد الله: ألك زوجة تأوي إليها؟ قال؛ نعم، قال: ألك مسكن تسكنه؟ قال: نعم، قال: فأنت من الأغنياء، قال: فإن لي خادمًا، قال: فأنت من الملوك، وقيل: الملك من له مسكن واسع فيه ماء جار، وقيل: من له مال لا يحتاج معه إلى تكلف الأعمال وتحمل المشاق، وإليه ذهب أبو علي الجبائي، وأنت تعلم أن الظاهر هنا القول بالمجاز وما ذكر في معرض الاستدلال محتمل له أيضًا.
{وءاتاكم مَّا لَمْ يُؤْت أَحَدًا مِّنَ العالمين} من فلق البحر وإغراق العدو وتظليل الغمام وانفجار الحجر وإنزال المنّ والسلوى وغير ذلك مما آتاهم الله تعالى من الأمور المخصوصة، والخطاب لقوم موسى عليه السلام كما هو الظاهر، وأل في {العالمين} للعهد، والمراد عالمي زمانهم، أو للاستغراق، والتفضيل من وجه لا يستلزم التفضيل من جميع الوجوه، فإنه قد يكون للمفضول ما ليس للفاضل، وعلى التقديرين لا يلزم تفضيلهم على هذه الأمة المحمدية على نبيها أفضل الصلاة وأكمل التحية، وإيتاء ما لم يؤت أحد وإن لم يلزم منه التفضيل لكن المتبادر من استعماله ذلك، ولذا أول بما أول، وعن سعيد بن جبير وأبي مالك أن الخطاب هنا لهذه الأمة وهو خلاف الظاهر جدًا ولا يكاد يرتكب مثله في الكتاب المجيد لأن الخطابات السابقة واللاحقة لبني إسرائيل فوجود خطاب في الأثناء لغيرهم مما يخل بالنظم الكريم، وكأن الداعي للقول به ظن لزوم التفضيل مع عدم دافع له سوى ذلك، وقد علمت أنه من بعض الظن. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}.
عطف القصة على القصص والمواعظ.
وتقدّم القول في نظائر {وإذ قال} في مواضع منها قوله تعالى: {وإذ قال ربّك للملائكة} في البقرة (30).
ومناسبة موقع هذه الآيات هنا أنّ القصة مشتملة على تذكير بنعم الله تعالى عليهم وحثّ على الوفاء بما عاقدوا الله عليه من الطاعة تمهيدًا لطلب امتثالهم.
وقدّم موسى عليه السلام أمره لبني إسرائيل بحرب الكنعانيين بتذكيرهم بنعمة الله عليهم ليُهيّىء نفوسهم إلى قبول هذا الأمر العظيم عليهم وليُوثقهم بالنصر إن قاتلوا أعداءهم، فذكر نعمة الله عليهم، وعَدّ لهم ثلاث نعم عظيمة:
أولاها: أنّ فيهم أنبياء، ومعنى جَعْل الأنبياء فيهم فيجوز أن يكون في عمود نسبهم فيما مضى مثل يوسف والأسباط وموسى وهارون، ويجوز أن يراد جعل في المخاطبين أنبياءَ؛ فيحتمل أنّه أراد نفسه، وذلك بعد موت أخيه هارون، لأنّ هذه القصّة وقعتْ بعد موت هارون؛ فيكون قوله: {أنبياءَ} جمعًا أريد به الجنس فاستوى الإفراد والجمع، لأنّ الجنسية إذا أريدت من الجمع بطلت منه الجمعية، وهذا الجِنس انحصر في فرد يومئذٍ، كقوله تعالى: {يحكم بها النبيئون الذين أسلموا للذين هادوا} [المائدة: 44] يريد محمدًا صلى الله عليه وسلم أو أراد من ظهر في زمن موسى من الأنبياء.
فقد كانت مريم أخت موسى نبيئة، كما هو صريح التوراة (إصحاح 15 من الخروج).
وكذلك ألْدَاد ومَيْدَاد كانا نبيئين في زمنَ موسى، كما في التّوراة (إصحاح11 سفر العدد).
وموقع النعمة في إقامة الأنبياء بينهم أنّ في ذلك ضمانَ الهدى لهم والجري على مراد الله تعالى منهم، وفيه أيضًا حسن ذكر لهم بين الأمم وفي تاريخ الأجيال.
والثانية: أنْ جعلهم ملوكًا، وهذا تشبيه بليغ، أي كالملوك في تصرّفهم في أنفسهم وسلامتهم من العبوديّة الّتي كانت عليهم للقبط، وجعلهم سادة على الأمم التي مرّوا بها، من الآموربين، والعَناقيين، والحشبونيين، والرفائيين، والعمالقة، والكنعانيين، أو استعمل فعل {جعلكم} في معنى الاستقبال مثل {أتى أمر الله} [النحل: 1] قصدًا لتحقيق الخبر، فيكون الخبر بشارة لهم بما سيكون لهم.
والنعمة الثالثة: أنّه آتاهم ما لم يؤت أحدًا من العالمين، ومَا صدقُ «ما» يجوز أن يكون شيئًا واحدًا ممّا خَصّ الله به بني إسرائيل، ويجوز أن يكون مجموع أشياء إذ آتاهم الشريعة الصحيحة الواسعة الهدى المعصومة، وأيّدهم بالنّصر في طريقهم، وساق إليهم رزقَهُم المنّ والسلوى أربعين سنة، وتولّى تربية نفوسهم بواسطة رُسله. اهـ.